الإبداع عند العرب:
*النساء و الإبداع عند أهل الجاهلية
أ. الخنساء شاعرة و ناقدة.
ب. أم جندب تقدم علقمة على زوجها.
ج. خليدة بنت الزبرقان،أو أخته تؤدب المخبل.
إذا كان الشعر ديوان العرب فكيف لا يحتفي العرب بالشعر و الشعراء،و إذا كان الشعراء بلغوا رتبة الأنبياء في يوم من الأيام فلا تعجب من قدسية الشعر،و من موقع الشاعر عندهم.و إذا تزحزح الشعراء عن قيم الأمة و اتخذوا سبل الغواية مغانم في العيش،و ربطوا الإبداع بالتيه و الأودية فإن الناس سيتركونهم و يتبعون غيرهم.فموقعهم مرهون بمواقفهم،وكرامتهم مشفوعة بعفتهم،و كلما عادوا عن طرق الغواية عاد الناس لهم،و كلما أوغلوا في الجفوة و البعد انفض الناس من حولهم،و اجتمعوا على غيرهم.
لا شك أن الحياة العربية كانت ملأى بالشعر و الشعراء،و أن مجالس اللهو كانت تحتاج إلى إبداع الشعراء،و مجالس الناس كانت تتشوف إلى أخبار قصائدهم،و مجالسهم، وتنافسهم الشعر، و حيازة قصب السبق فيه،من ذلك أن الشعر كان حاضراً في أسواق العرب،و في منازل الشعراء،و في طرقاتهم،و من هذه المواضع التقطنا بعض الدرر من إبداع العرب اليوم،و الإبداع في هذا اليوم ليس شعراً يُحكى و حسب،و لكنه نقد يُحفظ ويُروى،ويقوم على تبصرة و بصيرة،ولا يقف عند الرجال بل يتعداه إلى النساء،و إليكم فيما يأتي المشاهد المقتنصة من الجاهلية،لتكون ناطقة بما نريد،و معبرة عن أمة مبدعة جعلت الإبداع جزءاً من عيشها.
* الخنساء تدعي أنها أشعر من الرجال:
في سوق عكاظ حيث كان يضرب للنابغة الذبياني قبة من أدم ( جلد ) فتأتيه الشعراء من بلاد العرب كلها،يعرضون عليه أشعارهم،و لكم أن تتسعوا بالخيمة بخيالكم كثيراً،لتسع جموع الشعراء،و من جمعوه ليشهد مواضعهم عند كبير الشعراء النقاد ( النابغة الذبياني ) ولكم أن تضيفوا جمهوراً من عشاق الشعر إلى الحاضرين،و لكم أن تحجزوا عدداً من النسوة اللواتي قعدن على أطراف التجمع في الظل يستمتعن بالمشهد،و ينتظرن بعض أهليهن ممن لهم حاجة بعكاظ،و لكم أن تطلقوا الخيال لصيحات الترحيب أو الإعجاب أو الاستهجان عند إلقاء هذا الشاعر أو ذاك،و لكم أن تتصوروا كيف يزم بعضهم شفتيه استهجاناً من حكم النابغة لهذا الشاعر أو ذاك،و لكم أن تتصوروا أن بعض بناء الصورة المتهدمة بعوامل قد بناها خيال أستاذنا المرحوم الدكتور شكري فيصل.
في سوق عكاظ وقف الشعراء على النابغة فأنشده الأعشى ميمون بن قيس،ثم حسان بن ثابت،ثم أنشدته الشعراء،ثم أنشدته الخنساء،قصيدتها التي منها:
كأنَّهُ علمٌ في رأسـهِ نارُ و إنَّ صخراً لتأتمَُ الهداةُ بهِ
فقال لها النابغة:و اللهِ ! لولا أن أبا بصير أنشدني،لقلتُ:إنك أشعر الجن و الإنس.هذه رواية،و في رواية أخرى أنه فضلها على بنات جنسها من النساء،فأبت حكمه،وادعت أنها أشعر من الرجال أيضاً على طريقة العرب في التكنية عن الأنثى أو الرجل.و في هذه الرواية موطن الشاهد؛ذلك أن الخنساء الشاعرة لم ترض بحكم النابغة بعد سماعه فاحتجت عليه، وردته عن تخصيصها بالعد بعد الأعشى،فهي تريد أن يقدمها عليه،و لا ريب في أنها ربما بكت من حكم النابغة و هي البكَّاءة.
ندع هذه المرأة تبكي صخراً،و تقاضي النابغة في حكمه،أو تراجعه،علها تجد من يواسيها في مصابيها مرة في أخيها و مرة في ترتيبها الفني،لنأوي إلى خيمة امرئ القيس في منازل طي.
*أم جندب الطائية تحكم لعلقمة على زوجها:
***
في الصباح عادهم علقمة الفحل،و لا نعلم سبباً لهذه الزيارة،سوى التقدير أنه كان ماراً بالمنطقة فعلم بحلول امرئ القيس فزاره ليعرض عليه أشعاره،أو أنه كان على موعد لأم جندب تأخر في تحقيقه فجاء متأخراً،و من جاء فما تأخر!! لعله جاء مهنئاً العروسين بالزفاف..كل ما نعلمه أن أحدهما نازع الآخر في الشعر،و قال كل منهما للآخر:أنا أشعر منك،فكانت المغالبة في الشعر،و هي في الحقيقة مغالبة بالإبداع على المرأة و كسب رضاها،فاشترط من اشترط شروط القول،و رضيا معاً بأم جندب ناقدة و قاضية تفصل بهذه القضية،فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:
نُقَضِّ لباناتِ الفؤادِ المُعذَّبِ خليليَّ مرَّا بي على أمِّ جُندبِ
حتى مرَّ بقوله:
و للزَّجرِ منهُ وقعُ أخرجَ مُهذِبِ فللسَّوط ألهوبٌ و للسَّاقِ دِرَّةٌ
فأنشدها علقمة قوله:
و لم يكُ حقَّاً كلُّ هذا التَّجنُّبِ ذَهَبْتَ من الهِجرانِ في غيرِ مذهبِ
حتى انتهى إلى قوله:
يمرُّ كمَرِّ الرَّائحِ المتحلِّبِ فأدركهنَّ ثانياً من عِنانه
فقالت أم جندب لامرئ القيس:علقمة أشعر منك،قال امرؤ القيس:و كيف ؟قالت:لأنك زجرت فرسك،و حركته بساقك،و ضربته بسوطكَ،و أنه جاء هذا الصيد،ثم أدركه ثانياً من عنانه.فغضب امرؤ القيس،و قال:ليس كما قلتِ،و لكنكِ هويتهِ،فطلقها،فتزوجها علقمة من بعده.
هذه واحدة من قصص العرب الجميلة التي افتن الرواة،و أغلبهم من العجم بسردها،وكل يسردها على منهجه في الرواية،فبعضهم روى أن أم جندب اشترطت عليهما أن يقولا شعراً على روي واحد و قافية واحدة و عروض واحدة ينعتان فيه الخيل أو الحصان أو الفرس. ومثل هذا العالم يروى الخبر بفهمه له،و ليس بنص الرواية؛لأنه لاحظ أن القصيدتين يجمع بينهما بحر واحد و روي واحد،و موضوع الخبر منصرف إلى الحصان فقدر أن المرأة اشترطت عليهما هذه الشروط،و إلا فكيف اجتمعت هذه الموافقات في النصين..؟!!
و إذا كانت مصطلحات العروض و الوزن و القافية و النعت متأخرة ،و ظهورها على لسان أم جندب يدعو إلى رفض الرواية للخبر فإن هذه الرواية وحدها ترد دون الروايات الأخر؛لأن منهج الراوية أن يروي بفهمه،فإن ردت روايته فلا ينبغي أن ترد الروايات الأخر،ولا معنى لرد الحكاية كلها بحجة أن بروكلمان شك بالقصة لادعائه أن علقمة لم يلتق امرأ القيس،و لم يكن من زمنه،لأن تعدد روايات العلماء العرب القدامى يرد كلامه،ولاختلاف المؤرخين في وفيات الشاعرين علقمة الفحل و امرئ القيس،و لك أن تعرض ما قاله سزكين و بروكلمان و الزركلي و عمر رضا كحالة و ما قاله القدماء لتجد أن القصة من الحقائق الدامغة التي جرت على خلاف في تفصيل الخبر و لغته،ذلك أن الحقيقة كامنة في تقديم علقمة و أما العلة و الأسباب فمن كلام الرواة الذين حملوا لنا الخبر،على إجماعهم أنها كانت حكماً،و خلافهم فيمن وضع شروط المنافسة بين الشاعرين.
و أما أرخص الادعاءات في الضعف ففي قول القائل:لا يعقل أن امرأة عربية تفضل رجلاً غريباً على زوجها.و لو ذهب إلى بيوت الشيوخ في البوادي لعلم أن من إكرام الضيف أن تقدم المرأة الغريب على زوجها،و لو كان هذا مخالفاً مذاهب الحواضر و المدنيات المعاصرة،فالأعراف تختلف و الموازين تتعارض بتعارض الأعراف.
فأم جندب حكمت بأمر لأن قصيدة علقمة كانت تخاطبها و تجعلها موضوعاً للذكرى وتطلب إليها العتبى ،و أظن الموازنة بين القصيدتين سوف تكشف عن أسباب الحكم،وأبعاد العلاقة بين أم جندب و علقمة،و لا يبعد ما قاله امرؤ القيس من حبها لعلقمة،لعلاقة قديمة بينها و بينه.
المهم أن المراة الجاهلية كانت تحتفي بالشعر و الشعراء،و تتذوق الفن الشعري،و ترحب بقوة الطاقة في حصان علقمة،و تفضلها على طاقة حصان امرئ القيس.
*خليدة تؤدب المخبل الشاعر:
من ديار طي إلى ديار تميم،و من أم جندب إلى خليدة بنت الزبرقان كما يروي ابن الأعرابي،أو أخت الزبرقان كما يروي الأصمعي،و في رواية ابن الأعرابي أن المخبل السعدي نزل في بعض أسفاره على خليدة بنت الزبرقان بن بدر ،و كان يهاجي أباها،فعرفته و لم يعرفها،فأتته بغسول فغسلت رأسه،و أحسنت قِراه،و زودته عند الرحلة،فقال لها:من أنت؟! فقالت: اسمي رهو،فقال:تالله ما رأيت امرأة شريفة سميت بهذا الاسم غيرك.قالت:أنت سميتني به!! فقال:و كيف ..؟!! فقالت: أنا خليدة بنت الزبرقان،وكان هجاها و زوجها هزَّالاً في شعره.فأسف ،و اعتذر لها بقوله:
سأعتبُ قومي بعدها فأتوبُ لقد زلَّ رأيي في خُليدةَ زلَّةً
كذبتُ عليها و الهجاء كذوبُ و أشهدُ و المستغفَرُ اللهُ أنَّني
فالشاعر تأدب بموقف خليدة،و اعترف أنه يكذب،و أن طبيعة فن الهجاء عند العرب مبنية على الكذب.
مما تقدم وقفنا على المرأة العربية الجاهلية مبدعة و ناقدة ترحب بالإبداع أو تبين قيمته،وتغترف من ماء جماله و فنه لتعمق به شعورها بالحياة..
*النساء و الإبداع عند أهل الجاهلية
أ. الخنساء شاعرة و ناقدة.
ب. أم جندب تقدم علقمة على زوجها.
ج. خليدة بنت الزبرقان،أو أخته تؤدب المخبل.
إذا كان الشعر ديوان العرب فكيف لا يحتفي العرب بالشعر و الشعراء،و إذا كان الشعراء بلغوا رتبة الأنبياء في يوم من الأيام فلا تعجب من قدسية الشعر،و من موقع الشاعر عندهم.و إذا تزحزح الشعراء عن قيم الأمة و اتخذوا سبل الغواية مغانم في العيش،و ربطوا الإبداع بالتيه و الأودية فإن الناس سيتركونهم و يتبعون غيرهم.فموقعهم مرهون بمواقفهم،وكرامتهم مشفوعة بعفتهم،و كلما عادوا عن طرق الغواية عاد الناس لهم،و كلما أوغلوا في الجفوة و البعد انفض الناس من حولهم،و اجتمعوا على غيرهم.
لا شك أن الحياة العربية كانت ملأى بالشعر و الشعراء،و أن مجالس اللهو كانت تحتاج إلى إبداع الشعراء،و مجالس الناس كانت تتشوف إلى أخبار قصائدهم،و مجالسهم، وتنافسهم الشعر، و حيازة قصب السبق فيه،من ذلك أن الشعر كان حاضراً في أسواق العرب،و في منازل الشعراء،و في طرقاتهم،و من هذه المواضع التقطنا بعض الدرر من إبداع العرب اليوم،و الإبداع في هذا اليوم ليس شعراً يُحكى و حسب،و لكنه نقد يُحفظ ويُروى،ويقوم على تبصرة و بصيرة،ولا يقف عند الرجال بل يتعداه إلى النساء،و إليكم فيما يأتي المشاهد المقتنصة من الجاهلية،لتكون ناطقة بما نريد،و معبرة عن أمة مبدعة جعلت الإبداع جزءاً من عيشها.
* الخنساء تدعي أنها أشعر من الرجال:
في سوق عكاظ حيث كان يضرب للنابغة الذبياني قبة من أدم ( جلد ) فتأتيه الشعراء من بلاد العرب كلها،يعرضون عليه أشعارهم،و لكم أن تتسعوا بالخيمة بخيالكم كثيراً،لتسع جموع الشعراء،و من جمعوه ليشهد مواضعهم عند كبير الشعراء النقاد ( النابغة الذبياني ) ولكم أن تضيفوا جمهوراً من عشاق الشعر إلى الحاضرين،و لكم أن تحجزوا عدداً من النسوة اللواتي قعدن على أطراف التجمع في الظل يستمتعن بالمشهد،و ينتظرن بعض أهليهن ممن لهم حاجة بعكاظ،و لكم أن تطلقوا الخيال لصيحات الترحيب أو الإعجاب أو الاستهجان عند إلقاء هذا الشاعر أو ذاك،و لكم أن تتصوروا كيف يزم بعضهم شفتيه استهجاناً من حكم النابغة لهذا الشاعر أو ذاك،و لكم أن تتصوروا أن بعض بناء الصورة المتهدمة بعوامل قد بناها خيال أستاذنا المرحوم الدكتور شكري فيصل.
في سوق عكاظ وقف الشعراء على النابغة فأنشده الأعشى ميمون بن قيس،ثم حسان بن ثابت،ثم أنشدته الشعراء،ثم أنشدته الخنساء،قصيدتها التي منها:
كأنَّهُ علمٌ في رأسـهِ نارُ و إنَّ صخراً لتأتمَُ الهداةُ بهِ
فقال لها النابغة:و اللهِ ! لولا أن أبا بصير أنشدني،لقلتُ:إنك أشعر الجن و الإنس.هذه رواية،و في رواية أخرى أنه فضلها على بنات جنسها من النساء،فأبت حكمه،وادعت أنها أشعر من الرجال أيضاً على طريقة العرب في التكنية عن الأنثى أو الرجل.و في هذه الرواية موطن الشاهد؛ذلك أن الخنساء الشاعرة لم ترض بحكم النابغة بعد سماعه فاحتجت عليه، وردته عن تخصيصها بالعد بعد الأعشى،فهي تريد أن يقدمها عليه،و لا ريب في أنها ربما بكت من حكم النابغة و هي البكَّاءة.
ندع هذه المرأة تبكي صخراً،و تقاضي النابغة في حكمه،أو تراجعه،علها تجد من يواسيها في مصابيها مرة في أخيها و مرة في ترتيبها الفني،لنأوي إلى خيمة امرئ القيس في منازل طي.
*أم جندب الطائية تحكم لعلقمة على زوجها:
***
في الصباح عادهم علقمة الفحل،و لا نعلم سبباً لهذه الزيارة،سوى التقدير أنه كان ماراً بالمنطقة فعلم بحلول امرئ القيس فزاره ليعرض عليه أشعاره،أو أنه كان على موعد لأم جندب تأخر في تحقيقه فجاء متأخراً،و من جاء فما تأخر!! لعله جاء مهنئاً العروسين بالزفاف..كل ما نعلمه أن أحدهما نازع الآخر في الشعر،و قال كل منهما للآخر:أنا أشعر منك،فكانت المغالبة في الشعر،و هي في الحقيقة مغالبة بالإبداع على المرأة و كسب رضاها،فاشترط من اشترط شروط القول،و رضيا معاً بأم جندب ناقدة و قاضية تفصل بهذه القضية،فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:
نُقَضِّ لباناتِ الفؤادِ المُعذَّبِ خليليَّ مرَّا بي على أمِّ جُندبِ
حتى مرَّ بقوله:
و للزَّجرِ منهُ وقعُ أخرجَ مُهذِبِ فللسَّوط ألهوبٌ و للسَّاقِ دِرَّةٌ
فأنشدها علقمة قوله:
و لم يكُ حقَّاً كلُّ هذا التَّجنُّبِ ذَهَبْتَ من الهِجرانِ في غيرِ مذهبِ
حتى انتهى إلى قوله:
يمرُّ كمَرِّ الرَّائحِ المتحلِّبِ فأدركهنَّ ثانياً من عِنانه
فقالت أم جندب لامرئ القيس:علقمة أشعر منك،قال امرؤ القيس:و كيف ؟قالت:لأنك زجرت فرسك،و حركته بساقك،و ضربته بسوطكَ،و أنه جاء هذا الصيد،ثم أدركه ثانياً من عنانه.فغضب امرؤ القيس،و قال:ليس كما قلتِ،و لكنكِ هويتهِ،فطلقها،فتزوجها علقمة من بعده.
هذه واحدة من قصص العرب الجميلة التي افتن الرواة،و أغلبهم من العجم بسردها،وكل يسردها على منهجه في الرواية،فبعضهم روى أن أم جندب اشترطت عليهما أن يقولا شعراً على روي واحد و قافية واحدة و عروض واحدة ينعتان فيه الخيل أو الحصان أو الفرس. ومثل هذا العالم يروى الخبر بفهمه له،و ليس بنص الرواية؛لأنه لاحظ أن القصيدتين يجمع بينهما بحر واحد و روي واحد،و موضوع الخبر منصرف إلى الحصان فقدر أن المرأة اشترطت عليهما هذه الشروط،و إلا فكيف اجتمعت هذه الموافقات في النصين..؟!!
و إذا كانت مصطلحات العروض و الوزن و القافية و النعت متأخرة ،و ظهورها على لسان أم جندب يدعو إلى رفض الرواية للخبر فإن هذه الرواية وحدها ترد دون الروايات الأخر؛لأن منهج الراوية أن يروي بفهمه،فإن ردت روايته فلا ينبغي أن ترد الروايات الأخر،ولا معنى لرد الحكاية كلها بحجة أن بروكلمان شك بالقصة لادعائه أن علقمة لم يلتق امرأ القيس،و لم يكن من زمنه،لأن تعدد روايات العلماء العرب القدامى يرد كلامه،ولاختلاف المؤرخين في وفيات الشاعرين علقمة الفحل و امرئ القيس،و لك أن تعرض ما قاله سزكين و بروكلمان و الزركلي و عمر رضا كحالة و ما قاله القدماء لتجد أن القصة من الحقائق الدامغة التي جرت على خلاف في تفصيل الخبر و لغته،ذلك أن الحقيقة كامنة في تقديم علقمة و أما العلة و الأسباب فمن كلام الرواة الذين حملوا لنا الخبر،على إجماعهم أنها كانت حكماً،و خلافهم فيمن وضع شروط المنافسة بين الشاعرين.
و أما أرخص الادعاءات في الضعف ففي قول القائل:لا يعقل أن امرأة عربية تفضل رجلاً غريباً على زوجها.و لو ذهب إلى بيوت الشيوخ في البوادي لعلم أن من إكرام الضيف أن تقدم المرأة الغريب على زوجها،و لو كان هذا مخالفاً مذاهب الحواضر و المدنيات المعاصرة،فالأعراف تختلف و الموازين تتعارض بتعارض الأعراف.
فأم جندب حكمت بأمر لأن قصيدة علقمة كانت تخاطبها و تجعلها موضوعاً للذكرى وتطلب إليها العتبى ،و أظن الموازنة بين القصيدتين سوف تكشف عن أسباب الحكم،وأبعاد العلاقة بين أم جندب و علقمة،و لا يبعد ما قاله امرؤ القيس من حبها لعلقمة،لعلاقة قديمة بينها و بينه.
المهم أن المراة الجاهلية كانت تحتفي بالشعر و الشعراء،و تتذوق الفن الشعري،و ترحب بقوة الطاقة في حصان علقمة،و تفضلها على طاقة حصان امرئ القيس.
*خليدة تؤدب المخبل الشاعر:
من ديار طي إلى ديار تميم،و من أم جندب إلى خليدة بنت الزبرقان كما يروي ابن الأعرابي،أو أخت الزبرقان كما يروي الأصمعي،و في رواية ابن الأعرابي أن المخبل السعدي نزل في بعض أسفاره على خليدة بنت الزبرقان بن بدر ،و كان يهاجي أباها،فعرفته و لم يعرفها،فأتته بغسول فغسلت رأسه،و أحسنت قِراه،و زودته عند الرحلة،فقال لها:من أنت؟! فقالت: اسمي رهو،فقال:تالله ما رأيت امرأة شريفة سميت بهذا الاسم غيرك.قالت:أنت سميتني به!! فقال:و كيف ..؟!! فقالت: أنا خليدة بنت الزبرقان،وكان هجاها و زوجها هزَّالاً في شعره.فأسف ،و اعتذر لها بقوله:
سأعتبُ قومي بعدها فأتوبُ لقد زلَّ رأيي في خُليدةَ زلَّةً
كذبتُ عليها و الهجاء كذوبُ و أشهدُ و المستغفَرُ اللهُ أنَّني
فالشاعر تأدب بموقف خليدة،و اعترف أنه يكذب،و أن طبيعة فن الهجاء عند العرب مبنية على الكذب.
مما تقدم وقفنا على المرأة العربية الجاهلية مبدعة و ناقدة ترحب بالإبداع أو تبين قيمته،وتغترف من ماء جماله و فنه لتعمق به شعورها بالحياة..
